احساس أب
ارتعدت قسمات وجهه الهادئ حينما استلقى على طاولة العمليات مستسلما" لجراحةٍ كبرى على شرايين
قلبه المريضة ، كان نور الوقار يسطع من خطوطٍ رسمها الدهر على جبينه الواسع منبّأ" إياه بتساقطِ
أوراق خريفه السبعين..
تشابكت أصابع يده المرتعشة بيد الطبيب فسرى في عروق الطبيب أحاسيسٌ مبهمة تلقّاها من نبضانه
المتسارع .
عندما وصلت تلك الأحاسيس إلى قلب الطبيب كانت أبصاره تنفذ إلى قلب العجوز من خلال نظرات
عينيه ، فلم يجد في مشاعره خوفا" من موتٍ أو حزنا" على حياة ، ثمّة إحساس غريب انتاب روحه
المتوتّرة بعيدة" كلّ البعد عن مشرط الجراحة وأدواتها , شعورٌ آخر لم يألفه وجدان الطبيب من قبل.
أطفئ حيرته بابتسامةٍ كسرت شرود المريض العجوز وخففت من اضطرابه ممهّدا" لحديثٍ لطيفٍ قبل
الشروع بالجراحة..
الطبيب: لا بأس ، ستكون الأمور على ما يرام بإذن الله.
العجوز المريض: ثقتي بالله ثمّ بكم لا حدود لها ، ويقيني بذلك يغمر نفسي بالطمأنينة .
الطبيب : وكأنني أشعر أنّ السكينة في نفسك قد شوّبها إحساسٌ خفيّ عجزت قواميس قلبي عن تفسيره..
مع آخر كلمةٍ نطقها الطبيب انهمرت الدموع من عينيّ العجوز مؤيدة" صدق الإحساس الغريب الذي لاح
في صدر طبيبه..
العجوز المريض : أنت محقّ يا بنيّ ، هنالك شعورٌ يراودني منذ دخولي إلى هذه القاعة ، لكنّه من خارج
حدودها ، شكٌّ أرجو أن تساعد فؤادي المحترق للخلاص منه فينقلب يقينا" يعيد إلى نفسي الهدوء قبل أن
أخلد إلى تخديري العميق.
أشرقت دموعه وهي تسيل ببطءٍ معاندة" دقّات قلبه المتسارعة..
الطبيب: كلّ جوارحي وحواسي تنصت إليك يا عمّ ، قل ما شئت.
العجوز المريض: سؤال يحيّرني ويسيطر على تفكيري حتى أنساني ما أنا فيه ، أريدك أن تذهب وتأتيني
بالإجابة عليه لتريح قلبي قبل أن يخضع لسكّينك فلا أدري بعدها أيّ الآلام تعذّبني ..
الطبيب: لا تقلق من آلام الجراحة فلن تحظى بالتسلّل إلى جسدك إنّ شاء الله ، وهي أخفّ وطأ" من آلام
الروح التي لا سبيل لديّ لنزع أشواكها إلا بمعرفة ما يجول في أعماقك..
العجوز المريض هامسا" في أذن الطبيب: قل لي بربّك ، هل أولادي الثلاثة حزينون عليّ في الخارج؟
أم أنّ الأمر ليس كذلك..
باعد الطبيب أنامله عن يد المريض بهدوءٍ قبل أن يتحسّس عاصفةَ الدهشة التي سيطرت على خفقان قلبه.
انطلق من غرفة العمليات باحثا" خارج أبوابها عن أولاد المريض عسى أن يعود بما يهدّئ من روعه
سأل عنهم فلم يلق أحدا" ، أجابته الممرضة المسؤولة بأنهم تركوا رقم هاتفٍ للضرورة وانصرفوا إلى
أعمالهم بعد أن أخبروها بأنهم لا يودّون البقاء والانتظار..
تسمّر الطبيب في مكانه صامتا" ، فصدى الكلمات التي أطرقت أسماعه ضلّلت قدميه عن طريق العودة
إلى قاعة العمليات ، أضحى أسيرا" لموقفٍ جديد وإحساسٍ من لونٍ آخر ، لكنّه لون قاتم كئيب ، فشعور
الأب المريض ينطق بعين الحقيقة..
سيطر الطبيب على تصادم الأفكار والمشاعر بين قلبه وعقله الباطن ، ثم عاد أدراجه إلى غرفة العمليّات
محاولا" تذكّر أشياء" جميلة" في حياته ليصطنع ملامح السكينة على وجهه فينقلها إلى قلب الأب
المريض..
كانت عينا العجوز المريض تترقّب بكل لهفةٍ تقلّب أبصار الطبيب وهو قادمٌ نحوه ، أقبل إليه وعيناه
تبثّان إلى روح المريض رسائل كاذبة مفعمة" بالأمل والتفاؤل ..
الطبيب: ليسكن قلبك ولتهدأ روحك يا عم ، فأولادك قلقون عليك حزينون على فراقك ، يدعون الله لك بكلّ
صدقٍ بأن تتوّج نهاية العمل الجراحي بالصحة والسلامة.
انفرجت أسارير وجه الأب المريض واستأنفت الدموعُ طريقها من بياض عينيه الشاحبتين إلى وجنتيه
اللتين تعكسان بأنوارهما صفاءَ روحه..
فهتف نداءٌ في قلب الطبيب خشعت له كلّ نبضةٍ من نبضاته:
والله لو لامست تلك القطرات الأرضَ لتزلزلت ، ثمّ اهتزّت السماء لأنينها ، إنّها دموع الأب الطاهرة التي
لا تجفّ أبدا"..